سوريا- من الزنازين إلى التحرر.. هل يبقى الخنوع سلامًا؟

المؤلف: أحمد الشيخ09.28.2025
سوريا- من الزنازين إلى التحرر.. هل يبقى الخنوع سلامًا؟

قبل شهرين، بينما كنت في طريقي إلى أحد مستشفيات العاصمة الأردنية عمّان، انخرطتُ في حديث عفوي مع سائق سيارة الأجرة. سألته عن حاله وأحواله، فأجابني قائلًا: "لا أكاد أتذكر والدي، فقد غاب عن ناظرينا منذ أربعين عامًا مضت، ولا نعلم على وجه اليقين أهو حي يرزق أم قد فارق الحياة. لقد كان مع المقاومة اللبنانية، وقيل لنا حينها إنه اختفى في الأراضي السورية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين لم يصلنا عنه خبر. لطالما عبرت والدتي عن أمنيتها بأن يكون قد لقي ربه، فهو خير له من أن يقبع أسيرًا في غياهب السجون السورية".

يا له من موقف! لو كان بحوزتي رقم هاتف ذلك الرجل الأربعيني، لما ترددت لحظة في الاتصال به لأسأله بلهفة إن كان والده قد عاد إلى الحياة من السجون السورية، على غرار ما حدث مع العديد من الأفراد الذين أطلق سراحهم بعد مرور أربعة عقود أو أكثر.

عندما استولى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على السلطة في سوريا، إثر انقلاب أطاح برفاقه داخل حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1971، كنت حينها في السنة الثالثة من دراستي الجامعية في الأردن. لقد حدث ذلك بعد أربع سنوات فحسب من هزيمة يونيو/ حزيران 1967 النكراء.

في تلك الآونة، لم تكن جراح تلك الهزيمة المدوية قد التأمت بعد في ذاكرة شاب يافع، كانت تداعبه أحلام التخرج الوردية، ويحلم بالحرية لفلسطين الغالية، على الرغم من سلسلة الهزائم والانكسارات التي لازمت أبناء النكبة من جيلي.

أسوة بغيره من الزعماء والقادة العرب، بدأ حافظ الأسد يتحدث بلسان الواثق عن ضرورة ردع العدوان الإسرائيلي، وعن تحرير الجولان السليب بعد تحقيق التوازن الإستراتيجي المنشود. وفي خضم تلك الأحداث، اندلعت حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، وبرزت دبابات الجيش السوري على مشارف بحيرة طبريا من جهة الجولان، بينما تمكن المصريون من عبور خط بارليف الحصين. بيد أن الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، سرعان ما نكص على عقبيه، مما أدى إلى تراجع الجيش السوري شرقًا، وتمركزه في منطقة قطنة بريف دمشق، وهي المنطقة التي وصلت إليها قوات العدو في الوقت الراهن. في ذلك الوقت العصيب، تصدى الجيش العراقي الباسل للقوات الإسرائيلية الغاشمة، وتمكن من وقف تقدمها، على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها.

مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، تلاشت أحلام النصر الزاهية، وتحولت إلى كوابيس مرعبة، وأضحت أشواق الحرية أشواكًا حادة تنخر الجسد وتدمي القلب.

انقضت ثلاثة وخمسون عامًا عجافًا تحت وطأة حكم الرئيس الراحل ونجله من بعده. تحولت سوريا الحبيبة إلى سجن طائفي كبير، وأصبح الحديث عن التوازن الإستراتيجي مجرد لازمة جوفاء لا طائل منها، وتحول صاحبها إلى صنم يعبد من دون الله، نصبت تماثيله الشنيعة في كل زاوية من زوايا الوطن، لتبث في القلوب والعقول صنوف الرعب والنفاق والاستكانة التي لم تشهدها سوريا من قبل، حتى في عهد تيمور لنك السفاح.

لكن، وإنصافًا للحق، لم تكن هذه حال سوريا وحدها، بل هي حال العرب قاطبة، إلا من رحم ربي، ولا تزال هذه الحال مستمرة حتى يومنا هذا، وإن تفاوتت في الحدة والضراوة من نظام إلى آخر.

كلما زرت سوريا ودمشق تحديدًا، كنت أحرص على أن أشيح بناظري بعيدًا عن تلك التماثيل البغيضة، وأتساءل في قرارة نفسي: متى يحين ذلك اليوم الذي أعود فيه إلى دمشق ولا أرى هذه المنحوتات الصنمية المقيتة!

لقد زرت دمشق قبل اندلاع ثورات الربيع العربي ببضعة أشهر معدودة، وتقدمت بطلب رسمي للحصول على تصريح يسمح لي بتصوير برنامج وثائقي يتناول القلاع التاريخية العريقة المنتشرة في ربوع سوريا، والتي تقف شامخة كشاهد حي على صراعنا الأزلي الذي لا تخمد نيرانه مع الغرب، منذ أن فتح صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلاد الشام المباركة، باعتبارها الموطن الأصيل للعرب منذ فجر التاريخ، والمحيط الحيوي للإسلام في جزيرة العرب الممتدة من بحر العرب جنوبًا وصولًا إلى حدود الأناضول شمالًا.

كانت تلك الزيارة هي الأخيرة لي إلى سوريا، حيث كانت أبواب زنازين صيدنايا الجهنمية مشرعة على مصراعيها، وكأنها تصرخ بلسان الحال: هل من مزيد!

انقضت ثلاثة وخمسون عامًا حافلة بالمرارة والألم، قبل أن تتمكن دمشق من كسر أقفال زنازين صيدنايا الرهيبة، وينبثق شعاع أمل نحو غد مشرق، لا تغييبَ فيه ولا زنازين، سواء في سوريا أو غيرها من ديار العرب. فالله وحده يعلم عدد السجون الشبيهة بصيدنايا المنتشرة في أرجاء الوطن العربي، والتي تنتظر أن تنكشف يومًا ما، ليخرج من ظلوا على قيد الحياة فيها.

ماذا لو تحقق ذلك؟ حينها ستدرك شعوبنا، بعد أن تزول الغشاوة عن أعينها، أن الوطن بأكمله يتحول إلى زنزانة موحشة، وأن الداخل إليها ليس كالخارج منها، حين يستسلم الناس ويخضعون لإرادة المستبدين الآثمين، كلما طال أمد الظلم والقهر.

ماذا لو حدث ذلك؟ هل ستتساهل إسرائيل مع الأنظمة التي صالحتها وفتحت السجون والمعتقلات لشعوبها من أجل تحقيق السلام المزعوم؟ أم أنها سترى أن أي تحرر حقيقي وتغيير جوهري في أوضاع الأوطان يمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، على غرار ما حدث في سوريا، فترمي بكل المعاهدات والاتفاقيات عرض الحائط؟

لقد بقيت جبهة الجولان هادئة وساكنة كصمت القبور منذ عام 1973، التزامًا باتفاق فصل الاشتباك الموقع عام 1974، ومع ذلك لم تتردد إسرائيل لحظة واحدة في استغلال الظرف المناسب حين تغير الوضع في سوريا، خشية على أمنها كما تدعي، فتوسعت في أرض عربية جديدة. تقدمت دباباتها واحتلت المنطقة العازلة في الجولان، وفرضت حظر التجوال في العديد من القرى السورية المحيطة بالقنيطرة، ورفعت علمها فوق قاعدة عسكرية سورية في جبل الشيخ، بعد أن فر منها جنود الأسد المخلوع.

قامت إسرائيل بقصف جميع المطارات العسكرية السورية، ودمرت سلاحي الجو والبحرية السوريين تدميرًا كاملاً، وقصفت جميع المقار والمباني التي يمكن أن يستفيد منها النظام الجديد القادم بعد الأسد، وتباهت وسائل إعلامها بأن ذلك تم في أكبر عملية قصف جوي يقوم بها طيرانها في تاريخه المديد.

وباتت قواتها الآن على بعد 25 كيلومترًا فقط من العاصمة دمشق! وهي لا تخفي نيتها في التوغل أقرب إلى عاصمة الخلافة الأموية، وأول عاصمة للعالم الإسلامي آنذاك. بل وصل بها التمادي والاستخفاف بالأمة الإسلامية جمعاء إلى أن طالب وزير خارجيتها بمنح حكم ذاتي للأقليات في سوريا.

إن المشكلة الحقيقية التي تقض مضجع إسرائيل ليست سلام الخنوع العربي، بل هي التحرر من الخنوع والاستبداد في ديار العرب. لذلك، فإنها لن تسمح لنا بالتغيير والتحرر من نير الاستبداد، حتى لو كان ثمن ذلك سلامَ الخانعين، إذ طالما بقي الاستبداد والخنوع، بقي سلام الخنوع قائمًا.

ألا يمكن إذن أن تندفع إسرائيل لتغيير الواقع المتحرر؟ وهل ستلتزم بما وقعته من اتفاقيات ومعاهدات دولية؟

إن الخوف من التغيير ليس هاجس إسرائيل وحدها، بل هو هاجس بعض الأنظمة العربية الرسمية التي تراقب اليوم عن كثب مآلات الاستبداد في سوريا. ترى وسائل إعلام بعض هذه الأنظمة وهي تشفق على سوريا لما حل بها من ويلات، وتدعو إلى الحفاظ على وحدة ترابها وسيادتها، وتحذر من احتمالات تقسيمها أو انزلاقها إلى حرب أهلية طاحنة. هذه نفسها وسائل الإعلام التي روجت لنظام الأسد ودعمت دعوته لاستضافة القمة العربية قبل شهور قليلة. هؤلاء لا يرون في الاستبداد خطرًا داهمًا على الأوطان، حتى وإن حولها إلى زنازين مظلمة.

ولكن لماذا يا ترى نستكين، نحن العربَ، خانعين مستسلمين، ونكشف ظهورنا لسياط جلادينا في داخل أوطاننا، ولا نقول كفى؟!

لماذا يموت فينا الشوق إلى الحرية والكرامة سنين طوالًا؟

لماذا لا نصحو من غفلتنا العميقة إلا على أصوات الانفجارات الدامية التي تزعزع أركان وجودنا؟

لماذا لا نغار من العالم من حولنا، وهو يتحرر وينجز ويتقدم بخطى ثابتة نحو مستقبل أفضل، بينما نحن غارقون في سبات عميق؟

لماذا يستبد بنا حكامنا ويتشبثون بالسلطة، ولا يغادر أحدهم منصبه إلا بانتهاء الأجل المحتوم، أو بعد أن تفيض شوارعنا بدمائنا الزكية؟

لماذا نسارع في عدونا ونهرب مذعورين، بينما كان الأجدر بنا أن نواجه الموت بشجاعة وإباء؟

لماذا نقبل بالعيش في الزنازين سنين طويلة، ولا نستفيق إلا مع طلوع الفجر الباهت؟

لقد حُمِّلنا أمانة الرسالة السامية، ولكننا تخلينا عنها، فاستوى عندنا الوطن والزنزانة المظلمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة